الجنس : المشاركات : 23المـكـان : مكة المكرمةنقاطي : 157
موضوع: قلعة شالة بين الواقع و الأسطورة الثلاثاء 25 مايو - 18:59
تسترخي قلعة شالة العريقة على ضفاف نهر أبي الرقراق، في العاصمة المغربية الرباط… تسترخي كعروس أسطورية، تزداد جمالا كلما ازدادت عمرا. إنها تمد أطرافها في تكاسل و دلال، على ما يزيد عن ثمانية هكتارات من الأراضي الخضراء: أشجار و ظلال، و زهور و ثمار...قطعة من جنان الأرض، تستقبل كل يوم من الزوار الأشكال و الألوان، و هي تتذكر تاريخا أغبر كان لها في يوم من الأيام...تاريخ بدأ قبل الميلاد، حين اتخذها عمالقة البحار من الفينيقيين عاصمة لهم، و دارت عجلة الزمان و تعاقب عليها ملوك و أمراء من قرطاجيين إلى رومان ثم وندال، فكانت لسكانها حصنا منيعا يعج بالفرسان، و قلعة صامدة يسمع في جنباتها صهيل الخيول.و يمر شريط الذكريات، فتتنهد القلعة الشامخة ، و هي تتذكر سلاطين الدولة المرينية الذين أحبتهم و عشقوها، و احتضنتهم فكرموها، لقد حولوها إلى مقبرة ملكية لسلاطينهم و أمرائهم و شهدائهم...و منذ ذلك الحين، تحولت القلعة "المدينة" إلى حرم آمن، و معبد مقدس، و مزار محترم، يلجأ إليها الفقهاء و علماء الدين بحثا عن خلوة لأرواحهم، و بما أن الخلود من سماتها لا من سماتهم، فقد كثرت فيها قبور الأولياء الصالحين، و ازدادت بذلك مكانتها رفعة في قلوب المغاربة الذين أصبحوا يتوافدون عليها، و في قلوبهم موروث ثقافي شعبي، و في أيديهم شموع يتقربون بها من أولياء الله في مراقدهم. ولقد تحولت القلعة إلى كنز من الأسرار، يؤمها الناس من كل مكان... فمن يائس يبحث عن خلاص، إلى عليلة تبحث عن علاج.فماذا في القلعة من أسرار ؟ و ما قصة أسماك النون التي تحقق الأحلام ؟ و ما قصة الجنية التي تحرس كنوز سليمان ؟ سحر المكان يطغى على العقل، يلغي المنطق و يلجم اللسان.حوض النون بركة مائية صغيرة، داخل أسوار قلعة شالة العريقة، تجتذب الزوار من كل مكان، و تسبح فيها أسماك النون الصغيرة التي تشبه الأفاعي.لقد ودعت هذه البركة أيام الماضي الغابر، حين كانت حوضا للسباحة يقصده المتطهرون قبل الوضوء، فيشاركون أسماك النون في السباحة و يؤدون معها طقوس الطهارة قبل أن يخرجوا للوضوء، لكنها و منذ مئات السنين تحولت إلى معلمة تاريخية أثرية، و بقيت فيها أسماك النون وحيدة، لا يؤنس وحدتها إلا قدوم الزائرين من كل مكان... يرمون لها فتات البيض، فتستقبلهم برقصة جماعية متناسقة و كأنها تنساب في الماء على وقع موسيقى صامتة.و في قاع الحوض تتلألأ قطع نقدية معدنية يرميها الباحثون عن تحقيق أحلامهم، و تتلوى السمكات الصغيرات و تضرب الماء بأذنابها فيما يخيل للرائي أنه تعبير منها عن الشكر و البهجة و وعد بتحقيق الأحلام. تقول فرحة السعدية التي آلت إليها مسؤولية الإشراف عن الحوض بالوراثة بعد وفاة زوجها:" هذه المياه مباركة، و رمي النقود(مع النية) يحقق الأماني مهما كانت بعيدة المنال" إنها امرأة تجاوزت الستين من عمرها، تجلس بجوار الحوض ، و قد استقر إلى جانبها لوح خشبي اصطفت فوقه بعض الشموع و أعواد الثقاب و البيض المسلوق...إنها سلع للبيع و هي تجارة رائجة في هذا المكان ، تسهل للزائر أداء طقوس تعود الناس عليها، فإشعال الشموع عرف متداول للتقرب من الأولياء و الصالحين و الجان أيضا، أما البيض فهو لإطعام أسماك النون التي تقول السعدية أنها "ستموت إن لم يطعمها الناس".أما الدليل السياحي أحمد عوراس فهو يعتقد أن رمي النقود في الحوض بغية تحقيق الأحلام ليس إلا خرافة إذ" يتمسك الناس هنا بأية وسيلة يمكن أن تحقق أمنياتهم...و النقود التي يرمي بها الزوار داخل الحوض يتقاسمها العاملون هنا"و عن البركة التي تحدثت عنها فرحة يقول:"كل ما يقال هو مجرد خرافات من صنع الناس، إنهم يختلقون القصص و يصدقونها".هذه المياه المباركة، التي تحدثت عنها فرحة لازال في جعبتها قصص أخرى تروى، إذ تتسلل هذه المياه عبر جدول صغير خلف "حوض النون" إلى ركن نستطيع أن نسميه ركن العاقرات، و هو عبارة عن ساحة صغيرة تفننت الطبيعة في إخفائها عن عيون المتلصصين، تحيط بها أشجار كثيفة متلاحمة، تستر ما وراءها من أجساد أنثوية تدخلها لأداء طقوس خاصة بالنساء...نساء حائرات يتوافدن على مدار العام إلى قلعة شالة على أمل الإنجاب بعد أن سدت في وجوههن سبل الطب و العلم..أليس هذا الماء مباركا كما تقول فرحة ؟ سحر الأسطورة و هيمنة الخرافة و عجز العاقر ، كل ذلك يدفع المرأة إلى تجربة الاغتسال في قلعة شالة ، بمياه يمنحها الموروث الثقافي قدرة خارقة ، و قوة تجعل المستحيل ممكنا..
يقول السيد أحمد عوراس:" تتوافد النساء العاقرات على زيارة هذا الحوض ،فيغتسلن بمياه العين، و يشعلن الشموع اعتقادا منهن أن هذه الطقوس تقيهن من العقم" لكن هذا الجامعي يعترض على تلك الخرافات و يعزوها إلى الإرث الثقافي المترسخ في عقول المغاربة ، و مع ذلك يعترف بأن معظم النساء المتوافدات للعلاج من العقم يشفين بقدرة قادر،و ينجبن إناثا و ذكورا، و هو يعزو ذلك إلى أسباب نفسية:"معظم هؤلاء النسوة يعشن في ظروف حياتية سيئة، و في حالة نفسية أسوأ، و الاغتسال بماء(فيه البركة) يمنحهن الطمأنينة ،و الأهم من هذا الاقتناع التام بالشفاء المحقق". كانت المرأة العاقر سابقا تعتكف وراء أسوار شالة لمدة أسبوع أو عشرة أيام و تغتسل كل يوم بماء الحوض، لكن هذه الظاهرة انحسرت في السنوات الأخيرة بعد أن قام المسؤولون بتنظيم أمور الدخول و الخروج و فرض رسوم على الزائرين طيلة أيام الأسبوع ، ما عدا يوم الجمعة الذي بقي فيه الدخول مجانيا...و لازال الزائر حتى الآن يرى النساء متوجهات إلى الركن المسور بالأشجار من أجل الاغتسال. السيدة ط. م واحدة من النساء اللواتي جئن لممارسة هذا الطقس العجيب، تمسك يد طفلها الذي تجاوز السنتين و تقول:"أحضر إلى هنا باستمرار، أشعل الشموع و أشرب من هذا الماء المبارك و أغتسل به و أبتهل إلى الله بالدعاء و الشكر، لقد ساعدني ذلك على إنجاب طفلي هذا بعد سبعة أعوام من الزواج، و أنا الآن حامل بطفلي الثاني، فكيف لي أن أغفل عن المجيء إلى هذه العين المباركة؟" إنها بلهجتها الرباطية القحة و جلابتها البنية البسيطة و منطقها الطفولي ترى أن عليها رد الجميل...أما السيدة مليكة التي حضرت برفقة زوجها، فتنفي أن تكون مؤمنة بهذه الخرافات:"أنا امرأة متعلمة، خريجة كلية الحقوق، فكيف لي أن أصدق أن هذه العين تشفي من العقم؟"و عندما سألتها عن سبب اغتسالها بالمياه في هذا الطقس البارد ردت ببساطة بأنها تمارس طقسا لا أكثر و أن التجربة أفضل من لا شيء...و هي مع ذلك متزوجة منذ عشر سنوات دون إنجاب أطفال. جنية قلعة شالة(حوض الجنيات ليس هذا كل ما يزخر به حوض النون، فما خفي كان أعظم. الحوض الذي تسبح فيه الآن سمكات النون بسلام و يتوافد لزيارته مئات الناس كل أسبوع، هو حوض "مسكون"، إذ تحدثنا الأسطورة أن هذه الأسماك التي نراها ليست إلا مجرد تمثلات لجنيات داخل الحوض و أن لهذه الجنيات ملكة عظيمة تحرس كنوز سليمان، لكنها لا تظهر للعامة. تقول فرحة:"كان زوجي يقضي معظم وقته قرب الحوض و قد شاهد الجنية الملكة أكثر من مرة"...جنية الحوض هذه لا تختلف حسب الأسطورة عن بقية السمكات الجنيات، إلا في ضخامة حجمها و في قرطين ذهبيين يتدليان من جانبي رأسها، لكن فرحة تعترض " قال زوجي الذي رآها أنها تضع قرطا ذهبيا واحدا في أذنها"و رغم أنها تنفي رؤيتها لجنية الحوض إلا أنها مقتنعة بأن زوجها "كان يشاهد الجان في أشكال مختلفة كالقطط و القنافذ". لا يرى الدليل أحمد عوراس في القلعة أي شيء مخيف" حتى أنني عندما بدأت عملي كمرشد سياحي، أردت معرفة سر قلعة شالة، فكنت آتي مرارا في الليل وحيدا و أتجول في أرجائها...لم أر لا وحشا و لا جنا، صحيح أن الأصوات في الليل تكون مرعبة، لكننا يمكن أن نرجع مصدرها إلى حفيف الأشجار و أصوات الحيوانات الصغيرة و وحشة المكان" أما عن أسماك النون الجنيات فيضحك قائلا:"هذه الأسماك يتم إحضارها من نهر أبي الرقراق القريب و رميها في الحوض كي يستمتع الزوار بمنظرها". لكن محمد الجطاري الأستاذ الباحث المتخصص في المباني التاريخية و المواقع الأثرية و ترميم الآثار يعارض رأي الدليل السياحي أحمد عوراس، إذ يقول إن أسماك النون كانت موجودة في الحوض منذ ظهوره، و أنها يمكن أن تتسرب إليه عن طريق وادي أبي الرقراق القريب، كما أنه يعترض بشدة:"الأسماك لا ترمى في الحوض للزينة !" و عن ارتباط أسماك النون بالأسطورة يقول:"ربما يكون شكلها الذي يشبه الأفاعي سببا في تخوف الناس منها و ربطها بالخرافة " و يضيف:"علينا أن نعلم أن سمك النون لا يهرب عندما يغتسل الناس في الحوض، لأنه بكل بساطة قد ألفهم...و قد يكون هذا ما أضفى عليه طابع الجنيات " تقول الأسطورة إنه عند هبوط الظلام، تخرج جنية الحوض من مخبئها في جلال و مهابة، و تتبعها بقية الجنيات اللواتي يتمظهرن على شكل سمكات تطير و تحوم في سماء قلعة شالة ، و يقال إن أعدادها كبيرة جدا ، و إنها تشبه أسراب النحل...صحيح أن السيدة المقيمة قرب الحوض لم تر جنية القلعة لكنها تؤكد أن القلعة كلها "مملوكة" أي ملك للجان. و لازال وراء أسوار القلعة ألف حكاية و حكاية...و لازال الناس يتوجهون إليها ،كل لقضاء غرضه...و يبقى السؤال مطروحا حول أصل الأسطورة...حول جنية الحوض حارسة كنوز سليمان و حول الماء المبارك الذي يمسح دموع البائسات و يحقق أحلامهن. ألف سؤال و سؤال بلا إجابات...فكل ركن في القلعة يخفي قصة ،و كل حجر فيها له حكاية ،و وراء كل شجرة برتقال أو تين لغز يحتاج حلا...لكن قلعة شالة تتربع في شموخ و إباء لتطل على نهر أبي الرقراق و ترمق جحافل الزوار و تسخر في سرها من أقاويل الناس...لأنها ببساطة وحدها من يعرف الحقيقة