الحمد لله رب العالمين ، ولا إله إلا الله التواب الرحيم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . . وبعد : في قاعة الاختبار يسمح لكل خطأ بأن يمسح ، وعلى ذلك لا يمكن لعاقل أن يقدم ورقة اختباره بخطئها فيرسب ويعيد عاماً ، ولديه الوقت لمسح الخطأ وتصويبه ، للحصول على النتيجة الإيجابية الصحيحة السليمة والنجاح في اختبار الدنيا . كذلك الإنسان في هذه الحياة الدنيا خلقه الله تعالى وكتب عليه الخطأ والزلل ، والذنب والمعصية ، وجعل له ماحية للخطايا ، ومزيلة للرزايا _ إنها التوبة _ نعم التوبة ، هي التي تمحو الذنوب ، وتُبدل بها السيئات إلى حسنات ، بفضل الله ومنته ، وكرمه ورحمته سبحانه ، فرحمته سبقت غضبه ، وهو الغفور الحليم ، التواب الرحيم . فاحذر يا عبد الله أن تقابل ربك في قبرك ويوم القيامة بصحيفة سوداء قاتمة ، وبإمكانك إن تبدل السيئات بالحسنات ، وذلك بالتوبة النصوح ، فالله عز وجل يقيل العثرات ، ويعفو عن السيئات ، ويقبل التوبات . الخطأ لا ينفك عن بني آدم حتى يتوفاه الله تعالى ، فالذنب والمعصية ملازمة له ، وكل حسب إيمانه وخوفه من ربه ، فمستقل ومستكثر من الذنوب نسأل الله أن يعافينا منها قليلها وكثيرها ، صغيرها وكبيرها إنه جواد كريم ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" [ رواه الترمذي وأحمد وان ماجة وغيرهم ، وقال العلامة الألباني : حديث حسن ، انظر حديث رقم: 4515 في صحيح الجامع ] . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِىي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " [ رواه مسلم ] . فسارع أيها المذنب بالتوبة النصوح ، واصقل قلبك بعد الذنب بتوبة خالصة لله ، وانطرح بين يديه ، وانكسر واستغفر وتب إليه فهو يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئة ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء17 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة39 ] . وقال سبحانه وتعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ الشورى25 ] .
فمن أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن أتبعه بتوبة فقد صقل قلبه ، وأصبح السواد بياضاً ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ . فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَجَارِهِ قَالُوا أَجَلْ . قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِى تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ حُذَيْفَةُ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ أَنَا . قَالَ أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ . قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّياً _ منكوساً _ لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " [ رواه مسلم ] . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِى قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهَ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
من الناس من يرتكب ذنباً فيسارع إلى التوبة والاستغفار إلى العزيز الغفار ، فيتبع السيئة الحسنة تمحها ، ونعوذ بالله أن نكون من الذين يذنبون ثم يتبعون الذنب بذنوب أُخرى حتى تصبح قلوبهم سوداء قاتمة لا تعرف معروفاً ، ولا تنكر منكراً ، إلا ما أُشرب من هواها . فاحرص أيها المسلم فأنت في دار المهلة ، احرص على التوبة في كل وقت وحين ، وبادر بالتوبة النصوح بعد ذنبك مباشرة فصاحب الشمال لا يكتبها فوراً بل يمهلك مهلة من الله لعلك تتوب وإلى الله تئوب ، وتأمل معي هذا الحديث :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً " [ رواه الطبراني وغيره ، وقال الألباني : حديث حسن ، انظر حديث رقم : 2097 في صحيح الجامع ] .
وإني أُذكر كل مسلم عاقل وقع في ذنب أو خطأ بأن للتوبة فوائد جمة ومنها : 1- أن التائب حبيب الله تعالى ، فالله تعالى يحب أهل التوبة ، فهذا فضل عظيم ، من الغفور الرحيم ، حيث يقول ربنا تبارك وتعالى : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }[ البقرة222 ] . يا له من حب لا حب بعده وهو أن يحبك الله ، فسارع إلى التوبة ، فبابها مفتوح ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها . سارع بالتوبة لتحظى بالمحبة الربانية التي بسببها تسعد ولا تشقى ، وتفرح فلا تحزن ، وتطمأن فلا تخاف . 2- أن الله تعالى يفرح بتوبة التائب ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ " [ رواه البخاري ] .
تدبر أيها العبد الفقير الضعيف أن الله يفرح بتوبتك إذا أذنبت ثم تبت إليه سبحانه ، يا له من فرح لك ما بعده فرح ، فلا تجزع إذا أذنبت فباب التوبة أمامك مفتوح ، ما عليك إلا الندم على ذنبك ، والتوبة النصوح على جرمك ، والانكسار بين يدي خالقك وموجدك سبحانه ، ليفرح بك ويغفر لك . 3- التوبة تجب ما قبلها ، بل إنها تبدل السيئات إلى حسنات ، فياله من فضل عظيم من الغني الكريم ، الغفور الرحيم ، كما جاء في الحديث الصحيح ، قال تعالى : { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان70 ] . فيا عبد الله تب إلى الله فهو يغفر الذنوب جميعاً ، ولا تتمادى في غيك وطيشك ، وتتبع شهواتك ، واحذر شيطانك ، فهو يدعو إلى النار ، وتأمل قول الله تبارك وتعالى : { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء27 ] ، وقال الحق تبارك وتعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة268 ] . يا أيها المسلمون . . الله يدعوكم إلى الجنة والمغفرة بإذنه ، الله يدعوكم لرحمته وجنته ، الله يحذركم من الولوغ في المعاصي واستمرائها ، فهي مهلكة إذ ربما مات العاصي وهو على معصيته وذنبه ، فيكون ذلك موجباً لدخول النار ، يقول ربكم سبحانه : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء18 ] . اللهم اجعلنا من التوابين ومن المتطهرين ، اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا بترك المعاصي ما أبقيتنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .