( غريمُ التِّلفاز )

وَقف خلفها مباشرة ثم ألقى التحية عليها بهدوء، و
لكنها لم تعره إهتماماً فلقد كَانت كل جوارحها و حواسِّها منصهرة مع المشهد
الدرامي إلى أبعد الحدود، حتى أن عدسات عينيها كانت غارقة في بحر من
الدموع تفاعلاً مع الممثلين، أدخل نفساً عميقاَ إلى رئتيه ثم زفره بهدوء و
أعاد إلقاء التحية بصوتً أعلى و مع ذلك لم تنتبه له، فأخرج منديلا من جيبه
ثم إلتفَّ أمامها و ناولها إيَّاه، فتفاجئت به أمامها ثم نظرت إليه
بإستغرابْ و قالت و هي تمسح الدموع بالمنديل عن خدِّها الوردي :
على الأقل ألقي التحية عند دخولك المنزل عوض إندساسك كاللصُوص.
أتمت
كَلماتها ثم راوغته بعينيها و تابعت من على يمينه بشغفٍ مشاهدة المسلسل
التركي، نظر إليها بإستغراب ثم جلس على الأريكة التي بجَانبها و بين يديه
بَاقة الورد التي لم تُثر حتى حُب الفضول عندها فرمى بها على المائدة حيث
كان لايزال إبريق الشاي قابعا في مكانه بصحبة الكؤوس منذ تناولها لوجبة
الإفطار هذا الصباح ثم قال بنبرةٍ من الأسى :
آسِف عزيزتي يبدو أن التعب و الإرهاق قد نالا مِني لذلك لم أنتبه لأمر إلقاء التحية، و أعدك مستقبلا بأن الأمر لن يتكرر.
الآن تصبحِين على خير فعليَّ أن أصحو باكراً للذهاب إلى العمل لصيانة أحد محركات المَصنع التي توقفت اليوم.


و عندما أتمَّ حديثه تولد لديه إحساسٌ بأنه كان يكلم
نفسه، فلم تنبس شفتاها بأية كلمة و كأنها كانت تحلق في مجرة أخرى، و مع
أنه ليس من عادته النوم باكراً و بدون عشاء، إلا أنه إستطاع التغيير من
عاداته التي تربى عليها و التكيف مع الوضع الجديد بعد مرور شهرين على شهر
العسل، فلم تكن المأكولات السَّريعة جداً التي تحضرها زوجته كَالبيض المقلي
و البطاطس المسلوقة و البيتزا بدون صلصة الطمام لتشكل عقبة أمام سعادته
الزوجية أو هذا ما كان يبدو له.


إسْتيقظ في الصَّباح الباكر و تركها غارقة في الشخير
فوق السرير بعد ليلة أخرى قضتها في السَّهر ثم ذهب إلى عمله، و بعد عودته
إلى المنزل في التاسعة و النصف مساءً هذه المرة وجده على نفس حالته بالأمس و
أسوأ، دخل الصالة ثم إقترب منها و ألقى كعادته التحية عليها و لكنها لم
تجبه بسبب طُقوسها المعتاد،ة فزفر بحنقٍ ثم و خزها من الخلف و قال لها :
مَساء الخير.
إلتفتتْ إليه و هي تتحسس بيدها المُرهفة الموضع الذي وخزها فيه ثم قالت :
كان يمكنك أن تلقي التحية بطريقة أكثرا تحضراَ من هذه.
رفع يديه للسَّماء ثم قال :
و كََيف لك أن تسمعينني و كل حواِّسك هي مع مهند ؟! و مع ما سيقوله مهند ؟!
رَمقته بإزدراء ثم قالت بسُخرية :
أنت فعلا مجنون حتى تغار من مُهند.
إبتسم بتعاسةٍ ثم قال :
و
كَيف لي أن لا أغار من مهند ؟! و أنت تعلمين عن تفاصيل حياة مهند الشخصية
أكثر مما تعرفينه عنِّي أنا زوجك، و حتى في حديثك مع إحدى صديقاتك على
الهاتف فكلامكن ليس إلا عن مهند، و عن آخر وشم وشمه مهند أو عن آخر إشهار
قام به مهند.


ثم تابع بِتوتر :
أتعلمين ما هي مشكلتكن يا نساء الشرق،
أنتن
تردنه رجلاً شرقيَّ الميلاد، و لكن بملامح المُسلسلات التركية و جسد
المسلسلات اللاتينية، مع مرح و خفة بولييود و رصيد و أناقة هولييود..
أما الرَّجل الشرقي فلا يريدها إلا شرقية حتى النخاع.
و عندما أتم حديثه رفعت كتفيها في لامبالة واضحةٍ منها ثم قالت :
فعلا أنت تثير شفقتي يا مجنون.
حاول أن يتمالك أعصَابه ثم تقدم نحو التلفاز و أطفأه ثم قال لها بتهكم :
مَجنون ؟!
طيب.. من المجنون الآن ؟!
أليس الذي يجلس أمَام هذه الشاشة الخرقاء طيلة اليوم تارة يضحك و تارة يبكي ؟!
حمل سترته من فوق الأريكة ثم تقدم بخطوات سَريعة نحو باب المنزل و هو يقول مع نفسه ساخطاً :
يا
ليثني عقدت قراني على جهاز التلفاز، فعلى الأقل من الناحية العملية هذا
أفضلُ من أن أعقد قراني على التلفاز و على معجبةٍ به حدَّ الجنون.




و ما إن أقفل بابَ المنزل حتى أعادت تشغيل التلفاز و هي تقول مع نفسها :
فعلا مجنونٌ.