الوردة المتفتحة عضو
الجنس : المشاركات : 47 المـكـان : الاردن نقاطي : 70
| موضوع: يــوم ليـــس كـالأيــــام . الخميس 7 يونيو - 11:42 | |
| يوم ليس كالأيام !!
خرج من منزله يحمل محفظة ثقيلة كعادته نحو المدرسة . يحملها وهو يستغرب من لعبة القدر ، ويلعن حظه العاثر الذي جعله مكلفا بهذه المهمة منذ نعومة أظافره وهو تلميذ إلى الآن وهو معلم في عقده الرابع . محفظة لا يرتاح من عبئها إلا في الآحاد والأعياد والعطل . بالنسبة إليه فالسر في جمالية هذه الأيام يكمن في تخلصه من حمل المحفظة وإن كانت تتحمل معه أعباء المدرسة : تحتوي على كل ما يحتاجه وإن كان خارجا عن نطاق الدرس .فبالإضافة إلى الكتب والجذادات والأقلام وكل الأذوات الدراسية تجد وثائق مهمة و مشطا ومسحوق الصابون وغير ذلك مما سيحتاجه آجلا أم عاجلا . ورغم ثقل وزنها وآلام الكتف ومعاناة الحمل والبعد كان لا يجرؤ على ترك بعض الكتب أو الجذادات التي لا يحتاجها باستمرار في خزانة البيت خوفا من أن يحتاجها فجأة ولا يعثر عليها في جوف المحفظة الشاسع . كان وزنها يزداد كل أسبوع تقريبا ولو بخمسين غراما من شدة حرصه واهتمامه بمتطلباته ومتطلبات التلاميذ .
وهو في طريقه إلى المدرسة وصل إلى مقهى ابا المحجوب وكان لديه الوقت الكافي لاحتساء قهوة الصباح والاستراحة من عناء الطريق والمحفظة وكان ابا المحجوب يعرفه منذ كان شابا في مقتبل العمر. حياه ولامه على غيابه الطويل واستلم منه محفظته ووضعها قربه في الداخل ثم هيأ له قهوة الصباح وكان يفضلها المعلم سي ابراهيم سوداء . بعد ربع ساعة تقريبا نهض سي ابراهيم وأدى ما عليه طالبا محفظته . أحضرها ابا المحجوب وهو يقول :
ـ وا ما تغيبش آ سي ابراهيم
استلم سي ابراهيم محفظته ذات الوزن الثقيل وهو يشكر ابا المحجوب على جودة ونكهة القهوة قائلا :
ـ وا قهواااا هادي آ با المحجوب !
فرد عليه بانشراح :
ـ ابصحتك آ ولدي
شق طريقه إلى المدرسة من جديد وهو يتحمل عبء المحفظة والطريق ويفكر في معاناة الدروس والساعات الموالية في القسم والحر الشديد واكتظاظ التلاميذ في القسم. كل ساعة في القسم أو حصة درس وسط المعطيات الجديدة تبدو أطول من ساعات يوم رمضاني في الصيف .
وأخيرا حل بالقسم بعد دخول التلاميذ ووضع المحفظة بعبئها الكبير على المكتب . أمر التلاميذ بالجلوس وبدأ يسألهم أسئلة قبلية مهيئا إياهم للدرس الجديد ثم التجأ صوب المحفظة ليخرج منها جذادة الدرس الجديد ومقرر القراءة لكنه فوجئ بصرصار كبير داخل المحفظة ، فاختلط عليه الأمر وقد تملك أعصابه خوفا من أن يكتشف التلاميذ المستور . تساءل في قرارة نفسه :
ـ من أين لي بهذا ؟ هاد شي لي ناقصني ! من أين جاء هذا اللعين ! هل طلب اللجوء السياسي من المحفظة ؟وتذكر ابا المحجوب حين حمل المحفظة حيث كان يوجد . ما العمل ؟ حاول إخراج الجذادة ومقرر القراءة دون أن يزعجه . لأول مرة يعاين صرصارا يحظى بالحماية والحق في الحياة . أخرج ما يحتاجه بمهارة فائقة وكأنه يحاول بطلان مفعول لغم وأقفل المحفظة بسرعة ووضعها على غير العادة تحت المكتب على الأرض ثم شرع في إلقاء الدرس لكنه فجأة سمع نقرات على الباب فأمر التلميذ الأقرب بفتحه وياللمفاجأة غير السارة : المدير وبجانبه مفتشة اللغة العربية في زيارتها السنوية له . قدمها المدير للمعلم وإن كانت لا تحتاج لتقديم . ثم قفل راجعا وتركها تهم بالدخول . رحب المعلم بالمفتشة وهويحاور نفسه :
ـ إنه ليوم مشؤوم ! ألم تختر هذه المفتشة إلا هذ ا اليوم ،يوم الصرصار! يالحظي العاثر!
وأفرغ طاولة في مؤخرة القسم المكتظ عن آخره بالتلاميذ . وبعد أن تفضلت بالجلوس طلبت من سي اراهيم إحضار جذادات أخرى لدروس قديمة . فقال في أدب واحترام:
ـ حاضر أستاذة .
وتوجه إلى المحفظة وهو يخشى أن تقع الكارثة ، يخشى أن يقلق راحة الصرصار في مأواه الجديد ، دار التعليم والثقافة ، فيخرج إلى رحاب القسم احتجاجا ويستقبله التلاميذ والمفتشة بترحاب كبير أو أن يتعلق بأهذاب جذادة من الجذادات القادمة إلى المفتشة وتلك هي الطامة الكبرى ! وخاصة إذا لم يكن للمفتشة الاستعداد الكافي لرؤية صرصار كبير من تلك الصراصير الملعونة أو إذا كانت من ذوات حساسية حادة ضدها . لاحظت المفتشة ارتباكه والعرق يتصبب من جبينه فتقدمت إلى مكتبه قرب المحفظة بالضبط وهي تتكئ عليها و تقول له بصوت خافت :
ـ إذا لم تكن ، أستاذ ، على ما يرام سأؤجل الزيارة إلى يوم آخر فأنا أعرف كفاءتك منذ سنوات .
ـ لا لا أستاذة سأحضر لك الجذادات وكل ما تطلبين ، تعالي تفضلي .ثم قال في قرارة نفسه : ليكن ما يكن !
وقادها محاولا إبعادها من المحفظة فعادت إلى مكانها وعاد هو إلى محفظته ورفعها ببطء شديد وكأنها كتب عليها عبارة "ممنوع الإزعاج " وهو لا يحاول إزعاج الضيف الثقيل . نعم أصبح هذا الضيف أثقل بكثير من المحفظة ، مسكنه الجديد .فتحها فوق المكتب ونظر إلى العمق باحتراس شديد واختار نموذجا من الجذادات فتحرك الصرصار ملتجئا إلى حيث يعتقد أنه في مأمن والحمد لله أنه لم يتخذ بعد قرارا بالهحرة خارج المحفظة ، موطنه الجديد . أقفل المحفظة بهدوء وتوجه إلى المفتشة وفي يديه الجذادات المطلوبة وشرع في الإلقاء محاولا أن يتظاهر برزانته المعهودة وعيناه تنتقلان بين الحين والآخر إلى المحفظة حيت يوجد الضيف الثقيل . أكمل الدرس بمشقة بالغة تضاهي عشر مرات محنة حمل المحفظة من البيت وإليه . تقدمت المفتشة إليه بعد أن أمرت التلاميذ بالانصراف وقالت له :
ـ اتباركالله عليك ،أستاذ ، دروسك قيمة تعجبني في كل زياراتي إليك ولو أني لاحظت أن حالتك الصحية ليست على ما يرام . ما خطبك ؟
ـ بعض الإرهاق سيدتي كما تعلمين إنه الشهر الأخير في السنة الدراسية !
حيته ثم همت بالانصراف واستدركت أمرا ثم توقفت وقالت :
ـ عفوا نسيت أن أقول لك أن نظراتك هذه المرة لم تبخل بها حتى على محفظتك هذه .
قالت ذلك وهي تبتسم وحركت المحفظة من مكانها وكأنها تزنها وقالت :
ـ أوه كم هي ثقيلة ! مليئة بالدروس والمواعظ والقيم . بالحق الحاجة لي متشبه مولاها حرام .
أما هو فكاد قلبه أن ينقلع من مكانه وانصرفت مودعة سي ابراهيم وهي تبتسم ابتسامة استحسان ورضى. ودعها وتبعها صوب الباب ولما خرجت أوصد الباب بإحكام واتجه توا إلى المحفظة وهو ينوي سحق الصرصار بقاع رجله اليمنى ذات المقاس الكبير من فرط توتر أعصابه ثم تردد وخاطب نفسه :
ـ إن كل عمل في فورة الغضب لا تحمد عواقبه وقد لا يكون منصفا .ألا يستحق هذا الصرصار العفو ما دام التزم حدوده ولم يسئ لحرمة القسم .
ثم التجأ إلى المحفظة وفتحها هذه المرة وهو يتعمد إزعاج ساكنها وأفرغها من كل ما فيها بعنف حتى تساقطت حبيبات مسحوق الصابون واختلطت بغبار الطباشير على المنضدة ، بحث بين الجذادات والكتب والوثائق والأدوات دون أن يجد له أثر وبعض التلاميذ ينظرون إليه خلسة من خلف النافذة وقد اعتقدوا أن معلمهم ضيع شيئا غاية في الأهمية . لقد خرج منها الصرصار خلسة كما دخل إليها . قد يكون علم أن دار التعليم والثقافة التي التجأ إليها لا تناسب مقامه وشتان بينهما وقد كان يتمنى أن يعود إلى موطنه الأصلي عند ابا المحجوب ولكن انكشف أمره ثم أن سي ابراهيم هذه المرة قد يضرب على شرب القهوة في هذه المقهى ولا يعود إليها .استمر سي ابراهيم في بحثه دون جدوى وكأن الأرض ابتلعته حينها اقتنع أن للصراصير أسلحة مقاومة تفوق ما يتوفر عليه الإنسان .
| |
|