هل أفعلها أم لا؟ هل سترتاح مني الدنيا و يثقل كاهل هذه البئر بجثثي ؟
الماضي سحيق و
الحاضر أليم و المستقبل محذوف.. هذا هو ملخص حياتي، لم أشعر بملل و لا كلل
طيلة السنوات التي عاشتني و سيرتني لحد اليوم. إنسان متميز بالرغم من أن
بدايتي و ولادتي و حمل أمي كان عاديا ، تماما ككل الناس.
تزوجت أمي المرأة
ككل النساء، برأس و شعر و صدر و رجل و ركبة، برجل ككل الرجال و حملت بي
تسعة أشهر، تسعة أشهر كاملة ككل أبناء البشر. أنا لم أولد مميزا، بل كسبت
التميز بعد خمس سنوات من ولادتي.
قامت
بتوليد أمي بطريقة عادية ككل النساء قابلة معروفة لدى كل الناس. و فرح بي
والداي، ككل البشر طبعا، بعدما رأوني كاملا و جميلا بعينين زرقاوين و رأس و
أنف و رجلين و لسان و ما تبقى من الروتوشات و الأدوات. بل كلفوا انفسهم
اكثر مما تتحمل جيوبهم المثقوبة و ذبحوا خروفا اسكتوا به أفواه الجيران و
العالم والأحباب و أعدوا وليمة تناقلتها كل المصالح في البلد و حضرها
محركوا البلد و ساسته كالمقدم الغدار و الشيخ الكذاب و رئيس الجماعة
المنافق و الجزار الغشاش و السارق الصادق و مناضلون آخرون.
لم يوفر لي والداي
كل ما تمنيت، لكني عشت مدللا وسط أسرتي الفقيرة. لم ألتحق بروض الأطفال كما
يفعل أبناء الطبقة الفقيرة و لا بأي مدرسة راقية لتعليم الفرنسية لأبناء
الشهر الثامن كما يفعل أبناء الوزير الأصلع أو الوزيرة الحولاء و لا المدير
الأحمق أو المندوبة السكيرة. لم أرافق أبي لملعب الكولف أو التنس، و لم
أرافق أمي لنادي الرياضة و النفاق كأبناء هذا و ذاك. لم يُشرف على عملية
ختاني طبيب محترف و لا حتى متدرب و لا حتى طبيب غشاش، بل أشرف عليها متعدد
اختصاصات: حلاق بشر و أغنام على حد سواء و خبير حجامة و سمسار و نقابي و
فقيه و إمام احتياطي و مؤذن و سكير محترف لا يخاف و لا يخشى أحدا.
كان عمري خمس
سنوات. لا أعرف كيف تركوني حتى كبرت و أصبحت رجلا ليقرروا ختاني، لو تركوني
كما كنت لكان أحسن، لكن حدث ما حدث و تلك هي نقطة التميز التي حظيت بها.
أتذكر كل التفاصيل: المقص الأسود و الأدوات العجيبة و الجلباب الأبيض
الصغير و حلّومة' و الدراهم و الضحكات البيضاء و " لا تُزعجوا ابني و
حبيبي" و تتمة المسرحية. كانت تراجيديا مُبكية، وضعوني وسط قصعة طينية
حمراء تستخدم للكسكس الذي كنت أهواه قبل تلك الساعة، و جردوني من ملابسي.
كنت مسالما و هادئا عكس ابني عمي و أخواي الصغيرين اللذين فتحوا أفواههم و
أطلقوا العنان لصرخات أزعجت القرية بأكملها. ربما هدوئي و صمتي هو الذي جعل
السيد صاحب السبع صنائع يقرر التمادي و العمل بثقة عالية، كم أنا غبي، لو
بكيت و صرخت لما حدث ما حدث. مرت العمليات الثلاث قبلي بخير و خرج الأطفال
الثلاث سالمين غانمين، أصبحوا مسلمين و رجالا من الطراز الرفيع لكني أنا لا
أعرف هل أنا مسلم الآن أم لا. كيف سأعرف؟
كانت صرخة والدي و
أعمامي و الجزار بعد ضربة مقصه الأسود آخر ما تذكرته في ذلك اليوم
التاريخي. لم أخرج لا سالما و لا غانما و لا مسلما و لا رجلا و لا ذكر و لا
امرأة، لم يجرأ أحد على حملي لأمي و ترك زغردات النساء تخرج من أفواههن
الغارقة.، انقلب الفرح قرحا و حزنت الأرض و بكت كل النساء و الأشياء.
حاولوا أخذي للمستشفى حين طالبتهم أمي بذلك لكن قولة " قدر الله و ما شاء
فعل " أعجبتهم و ظلوا يكررونها طيلة شهرين كاملين.
لم
أفهم لماذا أصبحت تتكرر تلك الجملة الخبيثة " مسكين. لو مات أحسن له و لنا
جميعا"، لم أمت لهم و لم أمت لنفسي، بقيت حيا و لكن لا أنا رجل و لا أنا
إنسان و لا امرأة و لا حتى شيء كما يقولون جميعا. لم يرفع أبي دعوى ضد
الجراح، سامحه بسهولة. طبعا سيسامحه لأنه بخير و على خير و لا ينقصه شيء،
فهو في طريقه للزواج من المرأة الرابعة الآن.
صبرت و قاومت القيل و القال فكلما مررت من أمام حشد بشري أو حجري إلا و بدأت بسماع " مسكين، لن يتزوج، منحوس، فعلا ...؟؟".
بعد سنوات قليلة
من الموت الروحي و الدهشة و التساؤل الكبير: "لماذا أنا؟" قرر أبي مساعدتي و
فتح باب المستقبل لي حتى أتعملق مع العمالقة و أصبح على كل لسان، ربما هذا
الحلم تحقق من قبل فأنا الآن مشهور في كل أنحاء البلد. كان همه الوحيد
إخراجي من المنزل حتى يتمتع بزوجاته. أخذني لأدرس في الكتاب و أحفظ كلام
الله عند صديقي أبو الخمسين صنعة. لم أرغب في البقاء و أذرفت الدموع عندما
رأيت وجهه القبيح من جديد، طمأنني و ذكرني لعل الذكرى تنفعني حين قال" قدر
الله و ما شاء فعل" و أضاف " الخير فيما اختاره الله، لا تنزعج يا ولدي.
ستتغير الأمور إن شاء الله و سيعوضك الله." أخذت لوحتي و بدأت عملية الحفظ
وسط نظرات و همسات و لمسات الطلبة الآخرين.
لم يكن يضربني و لا
حتى يشتمني، كنت مميزا عنده و كان ينظر لي نظرات لم أفهمها إلا بعد مرور
شهر. أصبح يدعوني لإحضار الماء و إدخاله لعشه و بدأ يصر علي بالجلوس بجنبه
ليخبرني بأن عيني جميلتين و بأني آية في الجمال. يوما بعد يوم ازداد تعلقه
بي و تعددت هجماته و محاولاته التي أصبحت خطيرة قبل أن أقرر الرحيل و
الجلوس بالمنزل. أخبرت أبي باني لن أذهب مرة أخرى. كان الرد حازما و فوريا،
صفعة في الوجه و كلمات لن أنساها ما حييت: "ماذا ستفعل و ماذا ستجني
بالجلوس بجانب النساء في المنزل، أنت لست حتى امرأة حتى تفعل ذلك". قررت
مباشرة الابتعاد عنهم جميعا و الذهاب باتجاه البئر المهجورة و المكروهة.
اللهم البئر، لن ترغب في تجريدي من ملابسي و لن تقول لي انت لا شيء، بل
ستحضنني و تقبل بي بصدر رحب.
هل أفعلها يا تُرى و أخلصهم مني و أخلص مني العالم و الأمم المتحدة؟